08 - 05 - 2025

ترنيمة عشق | القصَائدُ لا ترْحلُ

ترنيمة عشق | القصَائدُ لا ترْحلُ

لم يَعدْ لدينا وقتٌ للقاءِ الأحبَّة، ولا وقتٌ لوَدَاعِهِم، فقط نَمتلكُ مَهارَةَ القُعودِ لنَظمِ قَصائدِ الرِّثاءِ.. نرثي فارسًا من فرسان اللغة العربيّة؛ كان منافحًا عنها؛ يزود عن حياضها؛ شديد الغيرة عليها؛ يرىٰ أنّه من لم يمتلك أسرار تلك الشّريفة المقدّسة فلن يكون مبدعًا.

ففي الرّابع عشر من أكتوبر/ تشرين أول.. تحلّ علينا ذكرىٰ وفاة الشّاعر المصريّ الكبير "فاروق شُوشة".. الذي نحت مصطلحات تردّدها الأجيال من بعده كمصطلح: "لغتنا الجميلة"؛ الذي أصبح وصفًا شهيرًا للغة العربيّة التي عشقها وعشقته؛ وقدّمت له من دُرّها الفريد وعقدها النّضيد على مدى ستة عشرة ألف حلقة؛ هي عمْر برنامجه في الإذاعة المصريّة والتي سمعها العالَم العربيّ كله.

فبعد هزيمة 1967: كانت بداية انطلاق برنامجه الشّهير "لغتنا الجميلة"؛ وكان لذلك دلالة لا تخفىٰ علىٰ اللبيب، ففي أعقاب الانكسارات الوطنية عادةً ما تنشأ معارك ثقافية بين موجة "ابتذال" تعكس طبيعة المرحلة، وبين موجة "استنهاض" فكريّ وثقافيّ تحافظ على قوام الأُمّة وتحاول استنهاضها وإبقاء مشاعل الإفاقة مُتّقدة، ونحسبُ أنّ برنامج "لغتنا الجميلة" كان مكونًا أساسيًّا من مكونات الموجة الثّانية.. ونفْس هذا الصّراع انسحب على الأدب والفن كذلك.

ولأنّ بعضَ الرَّاحلينَ يَكتبونَ قصائد رثائهم بأنفسِهم !! فقد وجدتُ نصًّا يرثي فيه الرّاحل نفسه؛ حين كَتب يقول:

"رَحلَ العُمرُ

وتَمضي سَلةُ الأعوامِ لاتَحمِلُ شَيَّا

يَسقطُ السِّرُ.. يدوسُ الناسُ.. ينْهالُ التّرابُ الصَّلْدُ

يدنُو القيدُ.. يَهوي النّايُ مُلتاعًا شَجيٍّا                                                          

بعينيكَ سؤالٌ أخْرسُ الدَّمعةِ ما زال عَصَّيًّا

ما الذي سدَّدَ في قلبكَ سِكينًا..

وفي عينيكَ حُزنًا أبَديًّا؟"

مِن قصيدة الشّاعِرِ الرّاحلِ "اعترافاتُ العمرِ الخائِب"، تُراه كان عُمرًا خائِبًا؛ ذاك الذي فازَ بفاروق شُوشة كي يتَلَبسَه ؟! ذلك الغَواص الذي كُنَّا نُسائلُهُ كلَّ ليلةٍ عنْ أصْدافِ الدُرِّ الكامِن في حشايا الجميلةِ؛ والتي وَهَبَتْهُ إياه طَوعًا وعِشقًا وتَلبيةً ؟!

حقًّا بَعضُ الفِرسانِ يترَجَّلون ويغادرون؛ إلا فِرسانُ الشِعْر لا يرحلونَ.. ولا يتهيأونَ له، بلْ يتظاهرُونَ بالرّحيل، فالقصائدُ لا تموت؛ بل تُحيي وتُميت، فمَنْ مِنَّا يقْدرُ على قتلِ حرفٍ يَخلُقُ وجْداناً، حَرْفٍ يُحْيي ويَقتلُ أوَطانًا ؟!

يغادرُنا "فاروق شوشة" قليلًا؛ تاركًا بصْماتٍ نُقشَتْ في جُدرانِ القلبِ والرُّوح، ونايًا تلتفُ حولَه الصَّبايا، ووطنًا لا يعترفُ برحيلِ الأحبةِ، وذائقةً تَربَّتْ على صَوته الرَّخيم الوقور، ونُفوساً تتحرَّقُ شوقًا لتمارِسَ معهُ عِشقَ "الجميلةِ".. لغتِنا العربيةِ المُقَدَّسةِ، حتى خِلناها من فرط عشقهِ لها امرأةً ساحرةً؛ فاتنةً؛ باذخةَ الحُسْنِ؛ مُتوحِشةَ الجَمال.

تضافرَتْ في شخصيتهِ كلًّ أزاهيرُ الرَوعةِ، مِنْ رفيعِ أدبٍ، وعُلُو هِمَّةٍ، وغَزارةِ ثقافة، وعُذوبة إِلقاء، ورَهافَةِ حِس، وجُهدٍ دؤوبٍ مُخلصٍ، ومُثابرةٍ للذَّودِ عن حياضِ لُغتنا الشَّريفة، حتى باتَتْ مُدنُ أحلامِنا تفترشُها قصائدُه؛ مُعلنةً أنَّه بدورِهِ قصيدةٌ منَ الجَمال؛ عَصِيةٌ على النِّسيانِ.. وإنْ زُفَّتْ إلى السَّماءِ.

شاعرُنا الكبيرُ كان عظيمًا، وفي حَضْرةِ العُظماء؛ يُشعرونكَ أنّك عظيمٌ مثلُهم، هكذا دأبُه معنا؛ مذ كنا نجلسُ أمامَه على مقاعدِ الدراسة بكلية "الإعلامِ" بجامعةِ "القاهرة".

فارسُ "الضّادِ" وقِديسُها؛ الذي ترهبنَ في معبدِها؛ رهبانيةً ابتدعها؛ كُتبتْ عليه لأكثرَ من نصفِ قرنٍ، عكف عليها يستنطقُها، ويغوص في بحورها، عشقَ الجميلةَ؛ فبادلتْهُ عشقًا، فمن منّا ينسى ما وقر في آذاننا وأفئدتِنا لعقودٍ طِوال بصوته الدّفيء: "هنا القاهرة.. أنا البحر في أحشائه الدّر كامن.. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي".. بيتٌ لشاعر النّيل/ "حافظ إبراهيم"؛ كان مقدمةً لبَرنامَجه الشّهير: "لغتُنا الجميلة"؛ والذي بدأ بثُّه منذ ستينيات القرن الماضي، ولم يشأ "الفاروق" أن يضَعَ بيتًا من أشعارِه هو، وبصوتٍ يشنِّفُ الآذان، ويُسحرُ القلوبَ، ويُشعِلُ الوُجدان؛ سحرَنا بما يختارُه دومًا.

لم يكن شاعرًا كبيرًا وإعلاميًّا بارزًا فحسب، بل مؤسسةً ثقافيةٍ وأخلاقيةٍ بكامل هيئتها وعلىٰ غير مثال، حين نلقاه لا مفر من أن نقيم له في قلوبنا محفلًا، لذلك الذي يؤنس جالسيه ويسامرُهم بمختارات من الشّعر العربيّ في الرِّثاء؛ والحُب؛ والحُب الإلهيّ، بل ومن روائع وفرائدِ شعرِه؛ لإيمانه بأنّ للذوق الرّفيعِ دورًا في النّهوض بالشّعر، نسمعه حين يقول:

سأذكرُ بارقةً من حنينٍ

أضاءتْ بقلبي فراغَ السّنين

وأذكرُ مَوجةَ حُبٍ دفين

تُداعبُ أحلامَنا كلَ حين

وتطْفو على صفْحاتِ العيون

سأذكرُ ما عشتُ.. هل تذكرين ؟

كان بحقٍ أنشودةَ القصيدةِ حِسًا وإدراكًا.. فَهمًا وإلقاءً..

ومن دواوينه وأشعاره قدّم لنا أجملَ عشرين قصيدةً  في الحُب؛ وآُخَر في الحُب الإلهيّ، ومع ذلك لم ينس الموتَ كنهايةٍ لرحلة الإنسان، وبدايةً لخلود حرفِه وذكراه؛ فهكذا النّاسُ موتى وأهلُ العِلمِ أحياءُ، فكان ديوانُ: "في انتظار مالا يجيئ"، وديوانُ: "الرّحيلُ إلى منبع النّهر" الذي وصل للقائمة الطويلة لجائزة "الشّيخ زايد"، حيث تم اختياره من بين مائتين وخمسة وأربعين عملًا عام 2012- 2013 في دورتها السّابعة.

ولد بمحافظة دمياط المصرية في التّاسع من يناير/كانون ثانٍ 1936، بقرية الّشعراء؛ فلا ندري أكان الاسمُ نبؤةً بمولدِ ذلك الّشاعرِ الفذ ؟! المهم أنّه بادلَها الحُبَّ والعطاءَ؛ فأهداها أعمالَه الشّعريةَ الكاملةَ، فكان درسًا أصيلًا في النّبلِ والوفاءِ؛ من ذلك الذي أتم حفظَ "القرآن الكريم"، والتحق بكليةِ "دار العلوم" جامعة "القاهرة"، ثم كليةِ "التربية" بجامعة "عين شمس"؛ ليعملَ بعدهما بالإذاعة، ويتدرجُ في المناصب حتى يصبحَ رئيسًا لها، وأستاذًا للأدب العربيّ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

تتوالى برامِجة ذاتُ العلامةِ الفارقة عبر أثيرِ الإذاعةِ السّاحرة، فكانت "لغتنا الجميلة"، والتي من خلالها علَّم الناسَ حبَّ الشّعرِ العربيّ الكلاسيكيّ، و"في طريق النّور"، و"أمسيةٌ ثقافية" بالتليفزيون المِصريّ، حيث قدم كافةَ مبدعي عصرِه كبارًا وشبابًا، تشعرُ وأنت تسمَعُه كأنّه المريدُ في مِحرابِ ضَيفِه، فلا يأخذه الغرورُ ولا الكبرياءُ، فهكذا دأبُ العظماء.

قدَّم للساحةِ العديدَ من الدّواوينَ والمختاراتِ الشّعرية والأبحاثَ اللُغوية والسّيرةَ الشّعرية منها "إلىٰ مسافرة".. "العيونُ المحترقة".. "لغةٌ من دم العاشقين".. "يقول الدمُ العربيّ".. "هئتُ لك".. "الجميلة تنزل إلى النّهر".. و"عذاباتُ العمرِ الجميل".. وغيرَها.. ولأنه كان رجلًا ممتلئًا بالوقارِ الوثوق.. عذبًا؛ فكان ولابد أن يأتيَ شِعرُه عذبًا مثلَه، بل ومن فرط النّشوةِ صَدَّقنا الوِجدانَ الصّوفي في أشعاره، مدموغًا بصوته الدّفيء؛ يشوبُه نبرةُ حزْنٍ وشجنٍ جليلٍ، حتى إذا ما دخلَ القلبُ نشرَ الطُّمأنينةَ والسَّكينةَ.

حصَل علىٰ العديدِ من الجوائزِ التّشجيعيةِ والتّقديريةِ والشّعريةِ المصريةِ والعربيةِ، آخرُها: "جائزةُ النّيلِ"؛ وهي أعلىٰ وسامٍ يتمُّ منحهُ للأدباء في مصر، وشاء المولىٰ القدير أن يتلقاه قبلَ وفاتهِ بشهورٍ قليلة، لم يكن كل ذلك من فراغٍ، بل لأعماله وجُهودة المبهرةِ المُثمرةِ، والتي كان منها -إضافةً لما سبق- إيمانُه الشديدُ بقدرةِ الشِّعر على التّغيير، ووسيلةٍ من وسائل العلاجِ للنفس والرُّوح، آمَنَ بتلك النّظرية التي دعا إليه "جاك ليدي" العالِم الأمريكيّ مديرُ مركز العلاجِ الشِّعريّ بنيويورك، وقد كتب "شوشة" العديدَ من المقالاتِ حولَها في مَجلةِ "الدّوحة" و"صحيفةِ الأهرام"، وجمعها في كتابيه "العلاجُ بالشِّعر" و "الشعرُ أولًا والشِّعرُ آخرًا"، كان يرىٰ أنّ المشاعرَ التي تُحدثُها القصائدُ خاصةً "التّراجيدية" يمكنُ أن تؤدي إلىٰ التّصحيح والتّهذيب؛ ومن ثَمَّ التّطهير، عن طريق الغَوصِ في خبايا النّفسِ، بحثًا عن كوامِن الشّجنِ والشّفقةِ، فتنتجُ عنه حالةً من السُّكونِ والتّطلعِ للأفضل.. وفي هذا يقول:

هل آنَ أنْ نعودَ للجراءة ؟

لفطرةِ الإنسانِ، حين يؤمنُ الإنسانُ..

بقدرةِ الغريقِ أن يلاطمَ الموجَ، وأنْ يجاوزَ الرَدى ؟

هل آنَ أنْ نعودَ للقراءة ؟

لفطرة الإنسان، حين يعرفُ الإنسانُ..

حقيقةَ الذي مضى، وجوهرَ الخَبيء في بقيةِ الزّمان ؟

أسالُ ؟ منْ يجيئُني إذا سألتُ

وكلُكُم يعاقرُ المَلالَ والهوانَ

هل تعرفونَ قِيمةَ الإنسان ؟

حرّيةَ الإنسان ؟

هل هذا هو العلاجُ بالشِّعرِ ؟ ربما

علىٰ مَهلٍ؛ يبلغ شاعرُنا المهيبُ الثّمانين، ويابى إلا أن يغادرَنا بهدوءٍ كما عاهدناه بسمْتِه الهادئِ الرّصينِ في حياته، تمرُّ كلُ فتراتِ حياتِه والعالَمُ العربيّ تغلي مَراجلُه بالصّراعات السّياسية بل والأدبية، لكنه لم يفعل كبعض الشُّعراء؛ بل نأي بجانبه عن تلك الصّراعات، وإن كانت أشعارُه تُبدي مواقفَه بوقارٍ يليقُ به، مُيمِّمًا وجهَه شطْرَ الثّقافة، ليلتحمَ العاشقان ويَحوما معًا حول محبوبتيهما الجميلة.. نتسَمًّعُ  طلاوةَ مناجاتِه حين يهمِسُ:

"لحظةُ لقاء"

بين عينيكَ موعدي

وأنا أحملُ أيامي وأشواقي إليكا

وأرى في الأفْقِ النائي يدًا تمتدُ كالوعدِ وتَهفو

وأراني نحوَها.. طوعَ يديكا

من قديمِ الدَّهرِ؛ كانت نبضةً مثلَ اهتزازِ البرقِ، مثلَ اللمحِ

شيءٌ لستُ أدْريهِ احتواني

فتلاصقتُ لديكا.. يومَها

وارتعشتْ عينان

أغفى خافقان

استسلما للخَدَر النّاعمِ ينسابُ ويكسو وَجنتيكا يومَها

واتَّحَدَتْ روحانا

أغفتْ مقلتان

اختارنا حُلمًا بريءَ الوجه؛ حُلوَ السَّمتِ

عشناهُ نديًّا أخضرَ اللونِ وضِيئا

وقرأتُ العمرَ مكتوبًا هنا في مُقلتيكا

فاز الشّعرُ بفاروق شوشة، ونجح في الوصول به للعالَمِ العربيّ بأسْره، فهل ينجحُ في علاجِ فراغٍ تركه ؟! كي تَظَلَ شجرةُ الثّقافةِ والشّعرِ إذا سقط منها فرعٌ أصيل نبتَ غيرُه، فأمتُنا أمةُ كلمةٍ.. والكلمةُ معجزتُها.. والشِّعرُ أجلُّ وِعاءٍ لها وأروعُه.
--------------------------------
بقلم: حورية عُبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة